... ليكتمل الاستقلال ......
جبران تويني
كانت لعيد الاستقلال هذه السنة "نكهة" مختلفة عن كل السنين الماضية.
فقد شعر اللبنانيون أن للعيد معنى، بل معاني. كما شعروا فعلاً أنهم استحقوا الاحتفالات التي خرجت للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً من إطارها الفولكلوري الذي كان يغطي واقعاً غير فولكلوري: واقع الاحتلال والوصاية! ولكن، على رغم الفرحة الكبرى التي كانت تغمر قلوب اللبنانيين كان الحزن حاضراً لأن حلم استرجاع الاستقلال والسيادة والحرية الذي كلّف الوطن طوال ثلاثين عاماً أكثر من مئتي الف شهيد، لم يتحقق إلا بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه متوجين قافلة الشهداء الذين سقطوا ليحيا لبنان.
لقد اختلطت في الذكرى مشاعر الفرح والحزن، والامل والخوف، والارتياح والقلق!
فالشعب اللبناني يعرف ان استقلاله لا يزال يزعج الكثير الكثير ممن اعتبروه هزيمة لأحلامهم الجهنمية فراحوا يتوعدونه بالخراب من خلال اعلان حرب مفتوحة على حريتنا وسيادتنا واستقلالنا.
والشعب اللبناني كذلك يعتبر انه على رغم زوال قوات الاحتلال والوصاية من لبنان (ما عدا مزارع شبعا التي بدت خارج سيادة الدولة اللبنانية بسبب احتلال جيش العدو الاسرائيلي، اضافة الى عدم ارسال سوريا الى لبنان الوثائق المطلوبة لاعترافها رسميا بأن المزارع لبنانية) فان سيادتهم لن تكون كاملة قبل عودة الأسرى والمفقودين اللبنانيين من السجون السورية والاسرائيلية، ولن تكون كاملة قبل ان تحرر، اضافة الى "مزارع شبعا" بل قبلها – "مزارع بعبدا" من رمز سلطة الوصاية السورية في لبنان الرئيس اميل لحود، الذي أطل علينا دون خجل بـ"خطاب رئاسي" عشية الاستقلال فيما كان اللبنانيون ينتظرون منه رسالة استقالة علنية استجابة منه لنداء انتفاضة 14 آذار الشعبية، انتفاضة الاستقلال التي لولاها لما تحقق الحلم.
ولكن، ويا للأسف، جاء خطاب الرئيس لحود ليؤكد لنا ما كان قاله من قبل الرئيس السوري بشار الاسد في خطابه الذي اعلن فيه الحرب على لبنان، بأن سلطة الوصاية لا تزال متمسكة بتنفيذ خطتها الهادفة الى وضع اليد مجدداً على لبنان مهما يكن الثمن! لن نتوقف هنا عند الكلام المضحك المبكي لرئيس سلطة الوصاية الذي حاول ان يعطينا دروسا في احترام الدستور بقوله انه لا يجوز ان يجيّر او يغيّر لمصلحة شخص؟ وهل نسي هو ان سلطة الاحتلال عينته رئيسا وممثلا لها في لبنان من خلال تعديل الدستور قسرا بالتهديد والوعيد مما جعل تعديله غير شرعي وغير قانوني؟ .
وحبذا لو يطبّق الرئيس لحود على نفسه ما كُتب له وقرأه في خطابه الشهير حول احتكامه فقط الى الشعب.
كيف يريدنا الرئيس ان نصدقه عندما يخدع هو نفسه بتجاهله ما قاله الشعب اللبناني يوم 14 آذار وما زال يقوله حتى اليوم وغدا وبعده: لا لبقايا سلطة الوصاية السورية في لبنان، ونعم لرئيس جديد للجمهورية! وهو يخدع نفسه كذلك اذا لم يفهم معنى مقاطعة حركة 14 آذار استقبال بعبدا.
اذ لم يكن ممكنا، احتراما لكرامتنا وكرامة الشعب الذي انتفض يوم 14 آذار، ودماء الشهداء، ان نشارك في بهجة عيد استرجاع استقلالنا وسيادتنا وحريتنا، بمصافحة ومعايدة من كان ولا يزال رمز الانتقاص من الاستقلال والسيادة والحرية ورمز الوصاية السورية في لبنان. الرجل الذي ساهم في ارسال مواطنينا الى السجون السورية وابقائهم هناك. كما ساهم في تغطية جريمة الاجهاز على ابطال الجيش في اليرزة ودير القلعة يوم كان قائدا للجيش وبعدما صار رئيسا للجمهورية. وكيف لنا ان نصافح اليدين اللتين حبكتا الشبكات الامنية اللبنانية – السورية وما تبعها من مافيات وتغطية للفساد والصفقات والتفليسات. فهل كان من المعقول ان نعيّد او نصافح يدي من هو نقيض العيد ومعانيه؟ على اي حال ان وجود آخر "حصان طروادة" للنظام الامني السوري – اللبناني، لم يمنع الشعب اللبناني من ان يفرح بما استحقه عن حق وحقيقة. الاستقلال والسيادة والقرار الحر.
ولكن علينا ان نعي ان الاستقلال لا يمنع الوصاية والاحتلال وقد مررنا بتلك التجربة بعدما نال وطننا استقلاله عام 1943 على ايدي ابطال في مقدمهم الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح اللذان كرسّا بتحالفهما الوحدة الوطنية التي وحدها تحصن استقلالنا وسيادتنا وحريتنا.
وقد استهدف المتآمرون على لبنان، منذ نشوئه، تلك الوحدة التي لم تتمكن العهود والحكومات السابقة من الدفاع عنها او الحفاظ عليها، بسبب آدائها السياسي الرديء. لذلك يجب ان نعرف اليوم كيف نحافظ على استقلالنا من خلال زرعه في النفوس، واستلهامه في تحقيق التماسك والتفاعل والتكامل بين كل مكونات الوطن.
ان المحافظة على الاستقلال تكون بتعزيز ايماننا به وبوحدتنا، تماما كإيماننا بالله، ذلك الايمان النابع من العقل والقلب معا والذي عبّر عنه قلب مجروح آخر مساء امس من قلوب اللبنانيين الشهداء الاحياء، قلب مي شدياق التي تكلمت باسمنا جميعاً لتؤكد ان اللبنانيين ثابتون على العهد ومتمسكون برسالتهم الحضارية وبأرضهم المقدسة، ولتذكّر من لا يريد ان يتذكر ان هذا الوطن محكوم بالحياة الابدية لا بالموت، وبان تحقيق استقلالنا وسيادتنا وحريتنا قد كلفتنا غالياً، شهداء سقطوا، واحياءً واجهوا الموت بقوة الصمود والتصدي والايمان.
... لقد بث قلب الشهيدة الحية مي شدياق امس رسالة اعتزاز باسم قلوب شهداء لبنان، رسالة فرح وايمان، تؤكد فعل القيامة... قيامة وطن يفتخر بشعبه وشعب يتمسك بوطنه حتى الشهادة !