لا عزاء للسوريين القتل بعد القتل......
بشير البكر (كاتب سوري) .
انتظر الجنرال في رواية غابرييل غارسيا ماركيز حتى نهاية حياته، لكنه لم يجد من يكاتبه. وهو في انتظاره شاخ وتحطمت احلامه، وتغير العالم بعيدا عن حدود تطلعاته ورؤاه. ظل منطويا على نفسه ينتظر ساعي البريد الأمل لعدة عقود، لكنه لم يأت، فقضى تحت وقع اليأس الذي التهمه ببطء، ولم يجد في نهاية الرحلة سوى أن يلقي بشتيمة كبيرة بحجم الكون. كانت تلك شتيمة اليائس، الذي انتظر غودو عبثا.
لا يختلف ابناء شعبنا السوري، الذي حوّل البعث العربي الاشتراكي حياتهم الى خوف مقيم، عن جنرال ماركيز. انهم ينتظرون عبثا منذ عدة عقود، أن يأتيهم الفرج. لكن كلما لاحت فرصة ضاعت بسرعة، حتى لكأن الله متواطئ ضدهم. صارت غالبيتهم تعتقد بأن حظ النظام يفل الفولاذ، فالعالم من حوله يتغير، أما هو لا يحول ولا يزول. انهار الاتحاد السوفياتي، وسقط جدار برلين، وماتت غولدا مائير ودايان وبيغن وشامير وشارون، وانتهى الليكود، لكن البعث صامد "تتهدم الدنيا ولا يتهدم"، على حد ما جاء في قصيدة شاعره صابر فلحوط، التي مطلعها "بعث تشيده الجماجم والدم". هل هو خالد ويضرب في جذور البقاء، لأنه "تشيده الجماجم والدم"؟ وهل كل هذه الجماجم التي تتطاير في العراق اليوم، هي بفضل رسالته الخالدة؟
إن حال السوريين لايسر أحداًَ، ولا أحد يحسدهم عليه غير شركاء المأساة البعثية، ابناء الشعب العراقي البطل، الذين يستبسلون في مباراة دم طائفية، تغذيها الجارتان الغاليتان ايران وسوريا، في سباق محموم لاعادة "محاكمة" معاوية وعلي عليهما السلام .
ليس هناك مكان يخفي فيه السوري نفسه، لقد بات عاريا ومتهما أينما ذهب. ونظرا لثقل الأهوال وطول حقبة الانتظار لم يعد العالم يفرق بين الضحايا والجلادين. فالسوري أينما حل تفوح منه رائحة تربية طلائع البعث. يتوجس منه الناس، ويبتعدون عنه. فهو إن لم يكن من سرايا ماهر الاسد، فهو مع نمور رفعت الاسد. وإن لم يكن من شركاء رامي مخلوف، فهو من جماعة علي دوبا أو آصف شوكت. لم يعد هناك سوريون خارج التصنيفات.
كلنا متهمون بالقتل. ذبحنا الفلسطينيين في تل الزعتر بالتحالف مع الكتائب، ودمرنا بقية المخيمات لاحقا، بالتعاون مع حركة أمل. وقتلنا اللبنانيين، وهانحن نستثمر مأساة العراقيين. إن الامتياز الوحيد الذي يتفوق فيه الأشاوس من سرايا جيشنا، وأجهزة مخابراته الساهرة على احصاء انفاس الناس، هو التخريب.
صار خبراؤنا العسكريون والامنيون فلاسفة في الجريمة،من التنفيذ وحتى التغطية السياسية. ليس الضباط وحدهم هم الضالعون في القتل والتخريب، بل صار يسير في ركابهم جيش من الدكاترة، الذين تربوا في الغرف المظلمة ومدارس التعذيب وثقافة الجدار الحديدي. وأصبحت مهمة هؤلاء الذين يمتازون بوجدان حقير، هي غسل أيادي القتلة من دماء الضحايا، الذين كان آخرهم الوزير اللبناني الشاب بيار الجميل.
إن من تأمل المحلليين السياسيين السوريين على القنوات الفضائية، بعد اغتيال الوزيرالجميل، يشاركني الرأي من دون شك، في أن هذه الفئة هي الوجه الآخر لعمليات القتل. ولا تفيد في تغطية ذلك القاب الدكاترة والخبراء في مراكز الابحاث، التي تلقن الجهل والعبودية وطاعة الطغاة الصغار.
من خلال تفحص مرافعات هؤلاء ، يمكن أن يفهم المرء سر "انتحار" غازي كنعان وشقيقه، واغتيال رفيق الحريري وسمير قصير وجبران تويني. إن هذه المرافعات هي عبارة عن اعادة تمثيل لكل جريمة من هذه الجرائم، على لسان الناطق باسم القاتل.
لم يشأ هذا الجالس في دمشق فوق امجاد ابيه التي شيدها بالدم، إلا أن يغرق لبنان في حزن جديد. لقد قرر ألا يترك اللبنانيين ينعمون بالهدوء أو السلام. وألا تمر الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد جبران تويني، من دون أن يكون هناك دم جديد في شوارع بيروت.
قبل ساعات قليلة من صدور تقرير القاضي ديتليف ميليس اغتالوا جبران تويني. وهاهو نفس القاتل يعود إلى مكان الجريمة، قبل ساعات من صدور قرار مجلس الامن حول المحكمة الدولية، ليقتل من جديد. لقد سقط بيار الجميل بنفس اليد.
كانت رسالة القتلة في المرة الماضية، هي منع التحقيق الدولي من أن يأخذ مجراه، لكنه وصل في أقل من عام إلى هدفه. ورسالة القتلة في هذه المرة هي تعطيل المحكمة الدولية. وكلنا أمل أن نرى القتلة وراء القضبان قبل أن يطول انتظارنا، ويعودوا إلى مكان الجريمة من جديد.