نبيه بري بين مطباته مع نصر الله وكيمياء علاقته مع عون..
ونصف الطريق الذي لم يمشه مع جنبلاط
ولد في 28 يناير (كانون الثاني) عام 1938 في مدينة فريتاون عاصمة سيراليون. والده الحاج مصطفى بري، أحد وجهاء بلدة تبنين في الجنوب اللبناني، حيث تلقى علومه الابتدائية ليتابع المرحلة المتوسطة في مدينة بنت جبيل والكلية الجعفرية في صور. أما دراسته الثانوية فكانت في بيروت. بعدها درس الحقوق في الجامعة اللبنانية وتخرج محتلا المرتبة الاولى في دورته، ثم تابع دراسات عليا في جامعة السوربون الباريسية.
خلال دراسته الجامعية شارك في الحركات الطالبية وترأس الاتحاد الوطني للطلبة اللبنانيين وسجل حضوره ومواقفه في العديد من المؤتمرات الطلابية والسياسية، ليبدأ مسيرته المهنية محاميا في الاستئناف عام 1963.
المحطة الابرز في حياته كانت الى جانب موسى الصدر. تعرف اليه في منتصف الستينات. آنذاك كان الصدر يستوعب ابناء الشيعة المعارضين للزعامات التقليدية. وسرعان ما تقاربا ونشأت بينهما علاقة ود واحترام حتى بات بري أحد المقربين جدا من الامام وأحد أبرز مساعديه في مجالات عدة، خاصة المجال السياسي. وانتسب الى حركة المحرومين التي اسسها الصدر. تولى فيها مسؤوليات اعلامية ونسق مع بقية الاحزاب. انتخب في العام 1980 رئيسا لحركة «أفواج المقاومة اللبنانية» (أمل) ولا يزال حتى اليوم.
تولى حقائب وزارية عدة منذ العام 1984 حتى 1992، فكان وزيرا للعدل وللموارد المائية والكهربائية ولشؤون الجنوب وللاسكان ووزير دولة. تزوج مرتين: الاولى من قريبته ليلى بري وأنجب منها ستة ابناء هم: سيلان وسوسن وفرح ومصطفى وعبد الله وهند. وبعد طلاقه تزوج رندى عاصي وانجب منها أمل وميساء وباسل.
شاعر هو، لطالما كتب قصائده على ضوء الشموع في ليالي الحرب السوداء التي عرفها لبنان من العام 1975 الى العام 1989. غنى له الفنان مارسيل خليفة قصيدة «منتصب القامة أمشي» المهداة الى شهيد حركة «أمل» بلال فحص. كذلك قصيدة «يا عريس الجنوب». قال في احدى مقابلاته: «لا أكتب الشعر للشعر أو لأجل الغناء وانما عندما يغلبني احساسي فأغرف من النجيع. من نجيع القلب خاصة عندما يسقط مقاوم في الميدان. وكنت أكتب نثرا يخرج كأنه الشعر». وأضاف أن القصيدة عبارة عن رسالة بعث بها الى خطيبة بلال فحص بعد استشهاده مرفقة بوصيته ونشرتها الصحف. بعد ذلك غناها خليفة. وهو يحب مباريات كرة القدم، كما كان يهوى السينما ولعبة البليارد والملاكمة وقيادة السيارات.
لكن المحامي والشاعر شارك في الحرب اللبنانية ضمن تركيبة الميليشيات التي بقيت حتى اتفاق الطائف عام 1989 تتقاسم البلاد تحت عنوان سلطة الامر الواقع. كان واحدا من أمرائها بامتياز. لبس «قميص بيروت الوسخ». والتشبيه من بنات أفكاره. استخدمه في معرض نفيه ارتداءه. لكن لعبة الحرب الاهلية جرفته ليؤدي دوره كزعيم للطائفة الشيعية في ظل التركيبة الجديدة التي كانت تستوجب فرزا طائفيا للبلاد والتي بدأت تتضح ملامحها اثر الاجتياح الاسرائيلي لبنان عام 1982. بعد انتخاب أمين الجميل رئيسا للجمهورية غداة اغتيال شقيقه بشير
التزم نبيه بري أجندة سورية بأربعة بنود،. اشعال فتيل الاحداث الامنية في 6 فبراير (شباط) 1984. وخاض حرب المخيمات للقضاء نهائيا على نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1985، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 3000 فلسطيني ولم تتوقف الا بعد استجابة قيادة المنظمة ورضوخها لكل ما طلبه الاسد، ما افقد بري آنذاك هالة القائد العربي ليعيده قائد ميليشيا شيعية تضرب المسلمين السنة وجبهتهم الفلسطينية. والاتفاق الثلاثي مع النائب وليد جنبلاط والوزير والنائب الراحل الياس حبيقة في عام 1986. وهذه الاجندة جعلت من بري الزعيم اللبناني المفضل لدى الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، الذي قال لوليد جنبلاط بعد حرب أحداث 6 شباط: لدي اربعة ابناء ونبيه بري خامسهم. بعد ذلك أصبحت حركة «أمل» بقيادة بري المسؤولة عن أمن الجزء الغربي من العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية. وخاضت حروبا صغيرة مع القوى الاخرى من اشتراكيين وشيوعيين وناصريين وبقايا الجماعات التي كانت تمولها منظمة التحرير الفلسطينية.
وقد استدعى هذا الوضع عودة القوات السورية الى العاصمة اللبنانية، وكانوا غادروها هربا من الاجتياح الاسرائيلي. كما قام بري بعملية تنظيف لبيته «الحركي» الداخلي فأبعد الاصوات المعارضة ليجمع حوله من يثق بهم فقط. وإبان انهماك بري بـ«قميص بيروت الوسخ» ما افقد «أمل» الكثير من رونقها كحركة أفواج المقاومة كما هو عنوانها، ولدت من عناصرها نواة «حزب الله» الذي تولى على امتداد الثمانينات القيام بعمليات تتجاور النطاق المحلي الى نطاق اقليمي وعالمي من خلال خطف الرهائن الاجانب وعمليات الاغتيال، لا سيما بعد خطف الدبلوماسيين الايرانيين الاربعة.
وقويت شوكة الحزب ما سبب صراعا داخل الطائفة الشيعية اواخر الثمانينات، اعنفه كان في قرى اقليم التفاح في جنوب لبنان ليتسلم بري زعامة الشيعة بمباركة سورية ويتحول الحزب الى مقاومة اسرائيل في الشريط الجنوبي المحتل.ويجمع الكثيرون على أن نبيه بري الفصيح يفقد فصاحته حيال أمرين هما حرب المخيمات ومعارك اقليم التفاح. ويكتفي بالقول: اقلبوا الصفحة.
لكن الصفحة سمحت لبري بتسليف النظام السوري رصيدا، سدده النظام مع الفوائد. فبعد اتفاق الوفاق الوطني في الطائف واجراء اول انتخابات نيابية عام 1992، انتخب بري رئيسا لمجلس النواب ولا يزال.
ويبدو أن المطرقة في يده جعلته أقوى مما كان عليه عندما كان يحمل البندقية في الحروب الداخلية ضد اطراف الصراع على االساحة اللبنانية. فقد تجلت شخصية نبيه بري وتوهجت وتبلورت. وأصبح الرجل أحد أركان الترويكا التي تسير شؤون لبنان وتثير شجونه عندما تستدعي الحاجة، وذلك الى جانب الرئيسين الراحلين الياس الهراوي ورفيق الحريري.
ويمكن القول ان التسعينات من القرن الماضي كانت الفترة الذهبية لقائد الميليشيا السابق ورجل الدولة الحالي. فهو ساهم في كل التسويات التي حصلت على الاصعدة السياسية ، لكنه لم يثقل كتفيه بمسؤولية مباشرة عن أي منها. وبالطبع لم يزهد في الاستفادة من أي منها سواء في المحاصصة والتعيينات او في غيرها. يجيد تسديد الفواتير كما يجيد تحصيل ديون المواقف التي يسلفها الى القوى التي يتعامل معها. علاقته كانت ممتازة مع الرئيس الراحل الياس الهراوي تميزها صداقة لطيفة مهما اشتد الاختلاف في وجهات النظر. الرئيس الراحل رفيق الحريري كان صديقه اللدود. فقد كان يطيب للحريري أن يقول فيه: لا أستطيع ان أعيش مع نبيه بري ولا أستطيع أن أعيش من دونه.
وينقل عنه أصدقاء مشتركون قوله: لو أملك اليقين ان جنبلاط يسير معي الى نصف المسافة لأضمن وصولنا الى آخرها. وعن العلاقة مع ميشال عون يمكن القول انها غير واضحة الملامح، أو أن الكيمياء بين الرجلين تشكو من علة ما، مع الاشارة الى أن كتلة عون حجبت أصواتها عن بري في انتخابات رئاسة المجلس. أما علاقته بالامين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله فقد تعرضت الى مطبات عديدة، غالبا ما كانت تعكسها الخلافات التي تتطور الى نزاعات ومشكلات أمنية في صفوف مناصري القوتين الشيعيتين، والتي تعرفها جيدا كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، حيث شهدت في نهاية العام الدراسي المنصرم بعض الجولات العنيفة. لكن هذه المعارك الجانبية لم تكن تفسد للود قضية عندما يحين موعد الانتخابات النيابية، ليتحول التحالف الذي يجمعهما الى محدلة تحصد أصوات الجنوبيين والبقاعيين لتفوز لوائحهما بشبه اجماع.
الا ان دوام الحال من المحال. فقراءة تاريخ نبيه بري تشير الى أن الفترة الذهبية فقدت بعض بريقها مع تسلم الرئيس بشار الاسد الملف اللبناني خلال مرض ابيه. فقد تولى الابن الخيار الاستراتيجي لـ«حزب الله» وصنف رئيس الجمهورية اللبناني العماد إميل لحود في المرتبة الاولى لدى النظام السوري. وهكذا تغيرت الاجندة لتحل اربع اولويات سورية جديدة تجاه بري، فارتبط وصوله الى سدة الرئاسة مع محاولة ادخال جماعته الى السجن. وقد نجحت المحاولة مع وزير الزراعة السابق علي عبد الله ومدير مكتب الدواء السابق الدكتور قاسم حمادة وفشلت مع عدد من المديرين العامين المحسوبين على بري.
كذلك ترافق عهد لحود «البشاري» مع «حرتقات» تستهدف بري، مثل بث اشاعات عن ان العمل جار لاستبداله في رئاسة المجلس النيابي بالمدير العام السابق للامن العام اللواء جميل السيد (الموقوف حاليا للاشتباه بتورطه في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري). كذلك خاض لحود وأجهزته معركة انتخابات المجالس البلدية في الجنوب والبقاع ضد لوائح حركة «أمل» ودعموا لوائح «حزب الله». وأخيرا وليس آخرا يقول أحد المقربين من بري ان الاخير لا ينزه الاجهزة السورية عن عملية دعم الحركيين المنشقين وبينهم نواب ووزراء ومديرون عامون سابقون.
ويرد المحللون جفاء الاسد الابن حيال بري الى العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بـ«الحرس القديم» الذي كان يحيط بالأب، والذي غاب اما بفعل «الانتحار» او اختيار الهجرة الدائمة. ولكن هذا الجفاء بقي مستترا خلف ستار من العلاقات العادية بحدها الادنى في حين وصل الى حده الاقصى والعدائي مع الرئيس الراحل رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط وحلفائهم. كذلك يفسر هذا الجفاء بأن الاسد الابن لم ينس محاولة بري اليتيمة جمع شمل اللبنانيين عبر مبادرته زيارة البطريرك الماروني نصر الله صفير وفتحه ملف اعادة انتشار القوات السورية في لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان. ولا تغيب تصريحات بري النادرة عن ضرورة ارسال الجيش الى الجنوب اللبناني. ولم تشفع لبري محاولاته تسديد بعض الفواتير عبر حمله لواء لقاء «عين التينة» غداة التمديد القسري للحود وعشية اغتيال الحريري. فالرجل انتقل على ما يبدو من مرحلة تحصيل الديون الى مرحلة تسديد الفواتير مع خشية دائمة تستوجب منه الى النافذة بريبة مترقبا ومتوجسا. ولعل اشارته في مؤتمره الاخير الى النافذة هي ترجمة غير مباشرة لهذه الهواجس التي فرضت عليه قواعد جديدة للعبة منذ اغتيال الرئيس الحريري في 14 مارس (آذار) 2004.
بري قرأ الصفحة الجديدة وفهم أن عليه أن يسير بين الالغام. وها هو يواصل السير. التحالف الحالي الوثيق مع «حزب الله» يكاد يحمل شعار «مكره أخوك لا بطل»، فالفرز المذهبي الحاد الذي ترافق مع حرب يوليو (تموز) نال من قاعدته الحركية التي غلب عليها الهوى «الحزبوي»، إضافة الى شائبة الخطوط الخاصة المفتوحة في متنها باتجاه دمشق. والامر انعكس في المشكلات الامنية الاخيرة في الشارع البيروتي والتي تولاها عناصر من الحركة بمواجهة الفريق الآخر «السني» نتيجة الاحتقان السياسي بين الحزب وتيار «المستقبل».
ومن القراءات التي لم يغفل عنها بري ميوعة التكليف «الشرعي» له والذي ساد مرحلة الحرب الاخيرة في مواقف نصر الله، فالتفويض الذي عمل بموجبه الى جانب السنيورة في المفاوضات الدبلوماسية لوقف الحرب لم يعد مطلوبا. ودوره كمفاوض في ملف الاسرى انتهى قبل أن يبدأ ومحاولاته ازالة التشنج بين الحزب والحريري لم تجد نفعا على ما يبدو. وسعيه لتحسين العلاقات السعودية ـ السورية على أمل أن ينعكس التفاهم انفرادا لبنانيا باء بالفشل، اذ يقول أحد المطلعين على محادثاته في المملكة أن ولي العهد الامير سلطان بن عبد العزيز رفض أي ترطيب للاجواء مع النظام السوري الذي لم يتورع عن وصف القادة العرب بأنهم «انصاف رجال»، كذلك أظهر الملك عبد الله تحفظا على المسعى، رغم توضيح بري صعوبة إمرار قانون المحكمة الدولية اذا لم يتم تحسين العلاقات. ووصل بري الى العيدية التي حسب انه قادر على منحها الى اللبنانيين. والتي لم يكن سيعد بها لولا حصوله على ضمانات من الاطراف المتنافرة، وتحديدا من قيادات «حزب الله» الذين ارتاحوا مطلع الشهر الفضيل ليعاودوا التصعيد قبل التماس الهلال. وجهه خلال المؤتمر الصحافي كان يعكس قلقه وكأنه تلقف كرة نار يعجز عن اطفائها ويجهل الى اي مرمى يسددها.
قال في المؤتمر أنه طرف وليس مديرا للصراع. لكن الى اي جهة سيميل؟ هل يستطيع البقاء في وسطه المعتدل وهو القائل خلال الحرب الاخيرة منتقدا اياها بأسلوب مبطن: أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على كتفيّ، فلتفتح الجبهات العربية كلها؟
وفي ظل تسريبات عن تهديد باغتياله، وفي ظل الرسالة المتفجرة عشية عيديته اين سيكون؟ وهل سيحرر مسيرته من الفواتير ليغير المعادلة ويكسر الاحتكار الجديد للشيعة؟.