الدمار هو الدمار.. والنصر هو النصر......
رامي الأمين
السماء صافية في الجنوب. الازرق الناصع يمتد على مساحة كبيرة. الخراب كثير في الجنوب. البيوت مدمرة والابنية ملقاة على الارض كجثث جفّ دمها. الناس في الجنوب دم من لون آخر. الناس هم الجنوب، وبهم يكون او لا يكون. الانتصار. الصمود. درء العدوان. العيون الصامتة. البكاء الاخرس. الزيتون الملطخ بالغبار. الاطفال المتعبون من الجري خلف الفراشات. اللعب الضائعة بين الشظايا. الليل الذي تغير. الحب المسكون بالخوف من الغد. الامهات العائدات من المقابر، المحجبات بحزن يلفهن كعباءة كربلائية. الحزن فحسب. حزن كثير كمطر شباط. حزن يجر حزناً. امل يجلس بعيداً في الزاوية كتلميذ مقاصص. الحقول التي كلما اقتربت منها اتسعت، وكلما اتسعت ضاقت الحدود.
السماء صافية في الجنوب. الناس يجلسون في الركام. يتظللون ببقايا الجدران. يشربون الشاي على ناصية الخراب. الشاي فعل جنوبي. من مقومات الصمود. يتسامرون. يحكون عن ايامهم الصعبة التي قاسوها نتيجة الحرب. يفرغون ذاكرتهم من ركامها. ينفضون الغبار عن لياليهم السابقة. ويتكلمون عن القمر الذي يختلف بين القرية والمدينة. عن سماء ليست صافية تماماً كتلك التي يعيشون تحتها. يحركون اكوابهم. رنين الزجاج لحن الوجود. السكر يذوب. الشفاه ترتشف الغياب. لون الشاي كلون الافق لدى غياب الشمس. لون الشاي كلون السماء بين النهار والليل. بين الازرق والاسود.
ناس الجنوب احياء. تحت التراب وفوقه. الشهداء هنا يرزقون. ينغرسون في الارض لينبتوا في الشتاء عشباً وازهاراً وفطراً في البراري. الشهداء هنا حجارة يجلس عليها المقاتلون في الجبهة، والرعيان والاطفال اللاعبون في الحقل. الاطفال الذين يجمعون الحصى في شاحنات بلاستيكية، وينقلون القنابل العنقودية كحبات المشمش. يتلهون بالموت، كما لو كان لعبة. يتسابقون اليه. يركضون في مساحاته الواسعة. يجمعون الحصى ليبنوا بيوتهم الصغيرة فوق بقايا منازل ذويهم. يجمعون اشلاء المنزل ويدفنوه في الباحة الخلفية. يقفون عند ظلالهم ويبكون بانتظار الظل الاخير.. بانتظار الليل.
في حضرة الجنوب تكتشف كم انت مدمر. تكتشف كم تحتاج الى الترميم بعد كل هذا "الانتصار". لا يسعك ان تعتبر ان ما تراه نصراً. الريح، وان عادت، لا تمر بسهولة بين شعر الرأس. لا تمسد الذاكرة اليابسة. لا تنساب في رقبة الفتاة الشهية. لا شيء يجعلك تعترف بهذا الانسحاق الذي يغمرك وانت تراقب البيوت وقد ركعت. وهذه الاصوات التي تدخل اذنك، والتي تشبه عويل النسوة في المآتم، لن تبرر الموت. في حضرة الجنوب تكتشف كم انت ابيض. وكم ان السلام خارج عليك وعنك. لست هنا، في حضرة هذا الدمار، الا مدمراً. لا شيء سيقنعك بالانتصار، ولا حتى تدمير "تل ابيب" عن بكرة ابيها. ولا حتى التعويضات التي راحت تتسابق عليها الانظمة العربية. ولا حتى لافتات تقول بالنصر. من ينتصر، لا يقول انه فعل ذلك. في العام 2000، لم يقل احد اننا انتصرنا. لم توزع لافتات كالتي نراها اليوم فوق الانقاض. لكننا شعرنا حينها بالانتصار. كان ملموساً كالهواء عند كتف الوادي، وكطعم التين في بلدات الجنوب. لا نستطيع ان نسمي الاشياء بغير اسمائها. الدمار هو دمار. والنصر هو نصر. فلنقل اننا خرجنا بأقل هزيمة ممكنة. فلنقل اننا لم نهزم، ولم ننتصر. فلنقل اي شيء غير الذي نقوله ونردده في الفضاء الاجوف. نحن نريد الذين رحلوا. نريد الاشياء الثمينة التي دملت تحت انقاض البيوت. نريد التبغ الذي احترق، والزيتون الذابل، وكوب الشاي الذي بقي على حافة الشرفة طوال الحرب، دون ان تشربه الريح المحملة على غيمة من دخان اسود.
السماء صافية في الجنوب. السماء صافية في الجنوب...