زوال إسرائيل حتمية قرآنية......
من كتاب
اسرائيل النازيه للدكتور مصطفى محمود
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء ويُعزّ من يشاء ويُذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير. لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع، ولا قاطع لما وصَلَ ولا واصِلَ لما قطع، القائل سبحانه {وتلك الأيّام ندوالها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء، والله لا يحبّ الظالمين} [آل عمران: 140]. والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، القائل فيما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليَبلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيزٍ، أو بذلّ ذليلٍ، عِزّاً يُعزُّ به الإسلام، وذُلاًّ يُذلّ به الكفر». ورضي الله عن الصحابة الأعلام، نُجوم الليالي وشموسِ الأيّام، وجعلنا ممّن يقتفي أثرهم ويهتدي بهديهم بفضله ومنّه وكَرَمِه... آمين، أمّا بعد:
ففي الوقت الذي عظمت فيه محنة أهل الإسلام، وكادت عُراه أن تَنتَقِضَ، ووشيه أن يندَرِس، بكيد أعداءِ هذا الدين، ومكر الليل والنّهار: حتّى اشتدَّ الخَطْب، وتداعَى الكرب، وصارَ الواحِدُ من المسلمين يجهد في إقناع نفسه بصوابِ المقلوبِ من الحقائق(1)، فصارَ الشركُ بالله تعالى توحيداً وديناً، والتزلُّف إلى أعداءِ الله حِنكةً ودهاءً، والقعودُ عن نصرةِ المستضعفينَ والذبِّ عن أعراض المسلمين حكمةً وعقلاً، وفي الجملة صار الحقّ باطلاً والباطل حقّاً.. أقولُ في هذا الوقت العصيب، والأمّةُ أحوجُ ما تكون إلى الصادق الأمين من أهل العلم وحملة الدين، الناصح لله ولرسوله ولعامّة المسلمين وخاصّتهم، قَعَدَ أدعياءُ العلم المُنتسِبون إليه عن بيانِ الحقّ ودعوة الناس إليه، بل راحوا يزيّنون الباطل، ويخلعونَ عليه أوصاف الديانة ويُسمّونه بِمَياسِم الشريعة، تبريراً لقعودهم مع الخوالف، ورضاً بالدّنيِّ من الحياة الدنيا، فاتّخذهم الجهلةُ الرعاعُ وصنائِعَهم حجّةً لترك الخروج وترك إعداد العُدّة له. إن قُلت: «قــال الله، قال رســـــولُه قــال الصحابةُ سادةُ الأجيالِ» سيقولُ: «شيخي قال لي عن شيخه، والشيخُ عندي عمدةُ الأقوالِ»(2) وكان من أثر هذا الداءِ العُضالِ الذي أُصيبت به أمّةُ الإسلام -ولعَمْرُ الله إنَّهُ منها لَبِمَقْتَل- إقبال الناس ورضاهم بما قام به الحكّام المرتدّون في زماننا هذا من عقد معاهدة سلام دائم مع اليهود(3)، ومَنْ لَم يَرْضَ منهم بذلك اغتَرَّ بتلبيسَات أولئك الخوالف وقالتِهمُ السوْءَ إذ قالوا «إنّ وجودَ اليهودِ على أرض فلسطين أضحى واقعاً مفروضاً على الأمّة قبولُه، وعليها أن تهيّئَ نفسها للتعامل معه». ومنهم المغلوبُ على أمْرِه الذي لا يجدُ قوت يومه، وظنّ في هذه المعاهدة الملعونة خلاصاً له ممّا هو فيه، وأحْسَنُ القوم حالاً من راح ينعق فيقول: «الأرض مقابل السلام».
إلاَّ أولو بقيّة ينهونَ عن السوءِ والفساد في الأرض، لولاهم لخسفَ الله الأرض ومن عليها:
ولولا هُمــو كادت تميدُ بأهلها * ولكن رواسيها وأوتادها همو
ولولا همو كانت ظلاماً بأهلها * ولكن هُمُو فيها بدورٌ وأنــجم
وأغفل أولئك الأبعدون أنّ الأمرَ أمرُ إيمانٍ وكفر، توحيد وإسلام، وامتحان يمتحن الله به العباد، ليميز الخبيث من الطيّب، ويفرِّق بين الحقّ والباطل، ولينزل نصره على من نصر دينه من عباده، وأدّى حقَّ الله عليه، وجاهَد في الله حقّ جهاده كما قال تعالى: {أم حسبتم أن تُترَكوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتّخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، والله خبيرٌ بما تعملون..} [التوبة: 16] وقال تعالى، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقولَ الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إنّ نصر الله قريب} [البقرة: 214] وغير ذلك من الآيات، فهذا الذي يريده الله تبارك وتعالى بعباده من الابتلاء والامتحان، وهو سبحانه قد كتب لدينه ولرسلِه وللمؤمنين النصْرَ والغلبة والعزّة والظهور، أمّا الكفر والباطل فمهما عظمت دولته، وامتدّ سلطانه فهو زائلٌ لا محالة، فما ظنّك بدولة اليهودِ المغضوب عليهم، قَتلةِ الأنبياء وأعداء الرسل، وزوالُها قد نطق به كتابُ ربّنا سبحانه، وبُيِّن فيه مقَوِّماته وأسبابه، وبه بشَّر نبيّنا وإمامنا وقدوتنا صلوات الله وسلامه عليه فديناه بأرواحنا وآبائنا وأمّهاتنا. وأنا في هذا المقام أستعين الله تعالى في بيان ما دَلَّ على هذا الذي ذكرته من الكتاب والسنّة بشارةً لعباد الله المؤمنين، وإيقاظاً للغافلين، وشوكة في حلوقِ أعداء هذا الدين وأذنابهم من الخوالف أراحنا الله والمسلمين من شرّهم آمين.. آمين
اليهود والإفساد في الأرض:فأقول وبالله تعالى التوفيق: أمّا الكتاب فقال ربّنا سبحانه وتعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً * ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعْدُ الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما علو تتبيراً * عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدّتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً} [الإسراء: 4-8].
فهذه الآيات قد ذكر فيها سبحانه وتعالى عصيان بني إسرائيل ومخالفتهم أمر الله تعالى وأنّهم يستكبرون استكباراً شديداً بعلوّهم وجراءتهم على الله تعالى.
قلتُ / وقد أطال المفسّرون رحمهم الله تعالى في بيان المرّتين المشار إليهما وذِكْر من سُلِّطَ عليهم فيهما، وغالبهم ذكر أنّ المرّتين قد سبقتا، فأوّل المرّتين قتل زكريّا عليه السلام، والآخرة قتل يحيى بن زكريا. وأضاف الزمخشريّ في الثانية: «وقَصْد قتل عيسى بن مريم»، وكذا ذكره ابن جرير وابن عطيّة وابن حبّان الأندلسيّان والقرطبي وابن كثير وغيرهم رحمهم الله. وفي هذا الذي قالوه بحثٌ ونظر، فإنّ عمدتهم في ذلك كما قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله تعالى في «الأضواء» أخبارٌ إسرائيلية مشهورة في كتب التاريخ والتفسير، والعلم عند الله تعالى.(4) ومع ذلك فإنّ موضع الدلالة على ما سقناه لأجله لا إشكال فيه بحمد الله تعالى، وهو أنّ الله تعالى لمّا بيّن أنّ إفسادهم في الأرض وعلوّهم فيها سببٌ لبعثِ من يسومهم سوءَ العذاب توعّدهم تعالى بأنّهم كلّما عادوا إلى معصيته وخلاف أمره وقتل رسله وتكذيبهم عاد عليهم بالقتل والسبي وإحلال الذلّة والصغار بهم. وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة: {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدّتم عدنا} قال: فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين. ونحوه رُوي عن قتادة رحمه الله. رواه عنهما ابن جرير(5) رحمه الله، قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله تعالى «قوله {وإن عدّتم عدنا} لمّا بيّن جلّ وعلا أنّ بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنّهم يفسدون في الأرض مرّتين، وأنّه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولي بأسٍ شديد فاحتلّوا بلادهم وعذّبوهم. وأنّه إذا جاء وعد المرّة الآخرة: بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة، وليتبّروا ما علوا تتبيراً، وبيّن أيضاً أنّهم إن عادوا للإفساد المرّة الثالثة فإنّه جل ّوعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم، وذلك في قوله {وإن عدّتم عدنا} ولم يبيّن هنا: هل عادوا للإفساد المرّة الثالثة أو لا..؟ ولكنّه أشار في آيات أخر إلى أنّهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوّه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعادَ الله جلّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله {وإن عدّتم عدنا} فسلّط عليهم نبيّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلّة والمسكنة، فمن الآيات الدالّة على أنّهم عادوا للإفساد قوله تعالى {ولمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضب وللكافرين عذاب مهين} [البقرة: 89-90] وقوله {أوَكُلَّما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم...} [البقرة: 100] الآية، وقوله {ولا تزال تطلع على خائنة منهم.. } [المائدة: 13] الآية ونحو ذلك من الآيات. ومن الآيات الدالّة على أنّه تعالى عاد للانتقام منهم قوله تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وقذف في قلوبهم الرعب يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذّبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النّار. ذلك بأنّهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقّ الله فإنّ الله شديد العقاب} [البقرة: 59] وقوله تعالى {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها...} [الأحزاب: 26] الآية وغير ذلك من الآيات.» إنتهى كلامه رحمه الله.