عاقبة الإفساد في الأرضقلتُ / وهو مبنيّ على ما ذكره المفسّرون في شأنِ العُلُوَّيْن المذكورَيْن في الآيات، وأيَّا كان الأمر فإنّ وعْد الله تعالى قائم لعباده المؤمنين بأن يسلّط عليهم بسببِ فسادهم -كلّما عادوا إليه- من يسومهم سوء العذاب، وها هم اليوم قد علوا في الأرض فأهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا في البلاد، وإنّا لنسأله تعالى أن يعجّل لهم ما توعّدهم به وأن يجعل ذلك على أيدي الصالحين من عباده بمنّه وفضله سبحانه، فقد قال تعالى في كتابه الكريم {وإذ تأذّن ربّك ليبعثّنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوءَ العذاب إنَّ ربّك لسريع العقاب وإنّه لغفورٌ رحيم} [الأعراف: 167].
قال مقيده عفا الله عنه، وهذه والله بشارة ثانية لأهل الإسلام، وقد قال العلاّمة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيرها بعد أن ذكر ما قيلَ من أنّ موسى عليه السلام ضَرب عليهم الخراج، ثمّ قَهْرَ الملوك لهم من اليونانيين والكشدانيين وغيرهم، ثمّ قَهْرَ النصارى لهم وإذلالهم إيّاهم، ثمّ جاء الإسلام ومحمّد صلى الله عليه وسلم فكانوا تحت قهره وذمّته يؤدّون الخراج والجزية، قال العوفي عن ابن عبّاس في تفسير هذه الآية قال: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم، وقال عليّ بن أبي طلحة عنه: هي الجزية، والذي يسومهم سوءَ العذاب محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته إلى يوم القيامة، وكذا قال سعيد بن جبير وابن جريج والسدي وقتادة»(6).
قُلت / ووعد الله تعالى قائمٌ بذلك لهذه الأمّة حتّى يقاتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم عليه السلام وهم مع الدجّال لعنه الله كما بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وإلى نحو ذلك أشار ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيرها فقال: «ثمّ آخر أمرهم أنّهم يخرجون أنصاراً للدجّال فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك آخر الزمان»(7).
وقال تعالى: {وقالت اليهود يدُ الله مغلولةٌ غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان يُنفِقُ كيف يشاء وليزيدنّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحبّ المفسدين} [المائدة: 64].
فبيَّن سبحانه ما هم عليه من الكفر والإعراض عن الدين والحسد العظيم الدافع لهم إلى الكيد بالمؤمنين، ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدفع عن عباده المؤمنين ذلك ويردّ كيدهم بأمرين:
الأوّل: أنّه سبحانه ألقى بينهم العداوة والبغضاء فلا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بينهم دائماً، لا يجتمعون على حّقٍّ، ما داموا مخالفين مكذّبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ومثل هذه الآية قوله تعالى {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى} [الحشر: 14].
الثاني: أنّه سبحانه توعّدهم بإطفاء كلّ نارٍ للحرب يوقدونها فكلّما عقدوا أسباباً يكيدون بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكلّما أبرموا أمراً يحاربون به دين الله تعالى، أبطله الله وردّ كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيّئُ بهم.
ثم بيّن سبحانه أنّه لهم بالمرصاد لما جُبِلوا عليه من حُب الإفسادِ في الأرض حتّى صارَ صِفَةً لهم والله لا يحبّ مَنْ هذه صفته.
الأدلّة من القرآن الكريم
وقال القرطبيّ رحمه الله في قوله تعالى {كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} «كلّما» ظرف، أي كلّما جَمَّعوا وأعدّوا شتّت الله جمعهم». ثمّ ذكر في الآية قولاً آخر وهو أنّ المعنى «كلّما أوقدوا نار الغضب في نفوسهم وتجمّعوا بأبدانهم وقوّة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها حتّى يضعفوا، وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيّه صلى الله عليه وسلم».
قُلتُ: والصواب إن شاء الله تعالى أنّ هذه الخاصّية -وهي النصر بالرعب- باقيةٌ في الأمّة متى استقامت على دين الله تعالى وشريعته تكْرِمَةً لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمّة التي جعلها خير أمّة أُخرِجَت للناس، وبَسْطُ الدليل على هذا الموضع في غير هذا المحلّ والله أعلم. ثمّ -إعلم- أرشدك الله تعالى- أنّ الله عزّ وجلّ قد ذكر من أوصافِ اليهود في كتابه ما هو من مقوّمات زوالهم وذلّتهم وخذلانهم ما تضيق عنه هذه الورقات إلاّ أنّنا نذكر هنا بَعضَه:
- فمن ذلك أنّ الله تعالى قد لعنهم وغضب عليهم، وقد اتّفق أئمّة التفسير رحمهم الله تعالى على أنّ المراد بقوله عزّ وجلّ {غير المغضوب عليهم} هم اليهود، ويؤيّد هذا قوله تعالى: {قل هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند الله، مَن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شرٌّ مكاناً وأضلّ عن سواء السبيل} [المائدة: 60].
ومن ذلك أنّ الله تعالى جعلهم أهل ذلّة ومسكنة وصغار كما قال سبحانه {ضُرِبَت عليهم الذلَّةُ أين ما ثُقِفوا إلاّ بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من الناس وباءوا بغَضبٍ من الله وضُرِبَت عليهمُ المسكَنَةُ ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتُلُون الأنبياء بغير حقّ ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتَدُونَ} [آل عمران: 112].
وقوله تعالى هنا {أين ما ثقفوا} شرطيّة، وما زائدة، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضُربت هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلّة مستقبلاً، وعلى الوجه الأوّل هو ماضٍ يدلّ على المستقبل، أي ضُربَت عليهم الذلّة، وحيثما ظُفِر بهم ووُجدوا تُضرَب عليهم، وهذا المعنى يؤيّد قولَ من جعل الاستثناء في قوله {إلاّ بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس} منقطعاً، لأنّ الذلة لا تفارقهم أينما كانوا، وهو معنى أين ما ثقفوا، فإنّه عام في الأمكنة. ونقل ابن حبّان القول بذلك -أعني بانقطاع الاستثناء عن الفراء والزجاج- قال: وهو اختيار ابن عطيّة الأندلسي(
، وقيلَ: بل هو متّصل والمعنى ضُربَت عليهم الذلّة في عامة الأحوال إلاّ في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس. كذا ذكره الزمخشريّ(9). وقد قال ابن عبّاس رحمه الله تعالى ورضي عنه: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} أي بعهد من الله وعهد من الناس. ونحوه عن مجاهد وعكرمة والضحّاك وعطاء وقتادة والحسن والسدي والربيع بن أنس، كما رواه عنهم ابن جرير رحمه الله تعالى. قُلتُ: والظاهر من الآية أنّ الخلاف في أمر الاستثناء وارد على الذلّة، أمّا المسكنة وهي كما قال ابن عطيّة رحمه الله(10) «...التذلّل والضَّعَة، وهي حالة الطواف للمتلمّس للّقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفّف والتعزّز به، فليس أحد من اليهود -وإن كان غنيّاً- إلاّ وهو بهذه الحالة». فالظاهر أنها لازمة لهم في جميع الأحوال، قال ابن كثير رحمه الله {وضربت عليهم المسكنة} أي أُلزموها قدراً وشرعاً(11)، والله أعلم.
- ومنها أنّهم أهل جبن وهلع وخور كما قال تعالى {لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرىً محصّنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد} [الحشر: 14] وقال عنهم: {وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا يُنصَرون} [آل عمران: 111]. - ومنها وهو كالسبب لما قبله حرصهم على الحياة ولو كانت حياة خِسَّة ومهانة كما قال تعالى عنهم {ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة...} [البقرة: 96]. قُلت: لفظ «حياة» هنا نكرة في سياقِ الإثبات، وهي ربّما أفادت العموم بمجرّد دلالة السياق كما في قوله تعالى {علمَتْ نفسٌ ما قدَّمَتْ وأخّرت} [المائدة: 82]، وكما في قول القائل(12):
يَوْماً تَرى مرضعةً خَلُوجاً
وكُلُّ أنثى حَمَلَت خَدُوجا
وكُلَّ صاحٍ ثَمِلاً مَرُوجا
فإنّه أراد كُلَّ مرضعة بدليل ما بعده، وكذا قوله تعالى هنا على «حياة» فإنّها نكرة لإفادة معنى حرصهم على أيّ مرتبة من مراتب الحياة الدنيا وإن كانت حياة الذلّة والهوان، قاتلهم الله أنّى يُؤفكون.
- ومنها ما ذكره سبحانه عنهم من الفرقة والخلاف وشدّة العداوة والبغضاء كما دلّ عليه قوله تعالى {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 64] وقوله تعالى: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى}... وفي هذا من النفع العظيم لأهل الإسلام بتفريق صفوفهم وتمزيق جموعهم وضرب بعضهم ببعض الشيء الكثير ممّا هو من مكائد الحرب والقتال والحمد لله، وقد سبق الكلام على الآيتين بما يغني عن الإعادة ولله الحمد.
- وأنت لو تتبّعت ما قصَّه تبارك وتعالى عنهم في كتابه كما في سورة البقرة والأعراف وغيرهما لرأيت من أحوالهم مع أنبيائهم وتكذيبهم لهم وصدّهم عن سبيل الله عَجَباً، ولذلك لم تُلعن أمّة في كتاب الله تعالى كما لعن اليهود؛ ولم يسخط الله عزّ وجلّ ويغضب على أمّة ما سخط وغضب عليهم نعوذ بالله تعالى من ذلك، فقل لي بربّك ماذا بقي لهم بعد ذلك كلّه من مقوّمات الحياة والبقاء إلاّ ما يسخّره الله تعالى لهم من أسباب يُديل لهم بها دولة يعلونَ بها مفْسدين في الأرض، ثمّ يبعث عليهم من عباده من يزيل ملكهم ويسلبهم ما هم فيه.
الأدلّة من السنّة المطهّرة أقولُ: وأمّا البشارة النبويّة التي أخبر بها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فقد روى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذيّ في السنّن من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلون اليهود، حتّى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول: يا عبدالله، هذا يهودي ورائي فاقتله». وفي رواية عند البخاري أخرجها في كتاب المناقب: «تقاتلكم اليهود، فتُسَلَّطون عليهم، ثمّ يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودّ ورائي فاقتله». وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتّى تقاتلوا اليهود، حتّى يقولَ الحجر وراءه اليهوديّ: يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي فاقتله». وفي هذه الأحاديث تأكيدُ الأمرِ بوقوع قتالِ اليهود وقتلهم لا محالة، وظاهِرُ قوله في الحديث «لا تقوم الساعة» وقوعُ القتال قبل ذلك وأنّه ليس مُقيّداً بكونه من أشراطها، وقوله فيه «تقاتلون» الخطابُ فيه للصحابة رضي الله عنه والمراد من يأتي بعدهم، لكن روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً «ينزل الدجّال هذه السَّبخة -أي خارج المدينة- ثمّ يسلّط الله عليه المسلمين فيقتلون شيعته، حتّى أنّ اليهوديّ ليختبئ تحت الشجرة والحجر فيقول الحجر والشجرة للمسلم: هذا يهوديٌّ فاقتله». قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وعلى هذا فالمراد بقتال اليهود وقوعُ ذلك إذا خرج الدجّال ونزل عيسى، وكما وقع صريحاً في حديث أبي أمامة في قصّة خروج الدجّال ونزول عيسى، وفيه «وراء الدجّال سبعون ألف يهوديّ كلّهم ذو سيف محلّى. فيدركه عيسى عند «باب لدّ» فيقتله وينهزم اليهود، فلا يبقى شيءٌ ممّا يتوارى به يهوديّ إلا أنطق الله ذلك الشيء فقال: يا عبدالله -للمسلم- هذا يهودي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنّه من شجرهم». أخرجه ابن ماجة مطوّلاً وأصله عند أبي داود، ونحوه من حديث سمرة عند أحمد بإسناد حسن وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من حديث حذيفة بإسناد صحيح". إنتهى كلام الحافظ رحمه الله(13).
قال مقيده عفا الله عنه: وهل يحتمل وقوع هذه البشارة المذكورة بقتالهم مرّتين الأولى على ما في حديث الصحيحين والثانية عند نزول عيسى عليه السلام /فيقاتل الدجّال ويستأصِلُ اليهودَ الذين هم أتباعه؟ فيه بحث والله تبارك وتعالى أعلم، وعلى كلّ حالٍ ففي هذا الحديث بشارة عظيمة لهذه الأمّة ببقاء دين الإسلام إلى نزول عيسى بن مريم عليه السلام وبقاء الطائفة المنصورة التي تقاتل إلى وقت نزوله كما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في السنّة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً «لا تزال طائفة من أمّتي يُقاتلون على الحقّ ظاهرين على من ناوأهم، حتّى يقاتلَ آخرهم المسيح الدجّال». وأحاديث الطائفة المنصورة كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما، وفي قوله صلى الله عليه وسلم هنا لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ مع قوله حتّى يقاتل آخرهم إشارة إلى بقاء القتال مستمرّاً بين أهل الإسلام وغيرهم ومنهم اليهود، وقد ورد وصف هذه الطائفة بأنّها قائمة بأمر الله وأنّها ظاهرة وأنّها منصورة في حديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وثوبان رضي الله عنهم أجمعين. وفي هذا كلّه دلالة على أنّ هذه الأمّة موعودة بالنصر والتمكين متى أخذت بأسباب ذلك من إعداد العدّة والقتال في سبيل الله عزّ وجلّ، وما لليهود ودولتهم بعد ذلك من بقاء، عجّل الله تعالى بزوال ملكهم وجعلنا من جنده الذين قال فيهم في كتابه الكريم سبحانه مبيّناً وعدَه لأنبيائه ولهم {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنّهم لهم المنصورون. وإنّ جندنا لهم الغالبون} [الصافّات: 171-173]. وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين