الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي ......
إنه من المثير حقاٌ للانتباه وكما يلاحظ عبد الرزاق الفارس مؤلف هذا الكتاب أن لا يكون لمفهوم "الفقر" تعريف علمي دقيق, رغم أنه كان السبب في العديد من الثورات الاجتماعية والتغيرات الكبرى والاضطرابات السياسية.
وهذا ينسحب أيضاً على التعريف الذي اعتمده المؤلف نفسه بالقول بأن الفقر هو "عدم القدرة على تحقيق مستوى معين من المعيشة المادية يمثل الحد الأدنى المعقول والمقبول في مجتمع ما من المجتمعات في فترة زمنية محددة" (ص 21). فهذا التعريف ينطوي على غموض وعدم دقة في اعتماده "المعقولية والمقبولية"، وإذا كان علي بن أبي طالب قد سطر مقولته الشهيرة "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" فإنه بذلك يقصد -ليس إلا- وطأة الفقر ووحشيته حين يضرب في المجتمعات الإنسانية, بل هو يؤرخ من ناحية ثانية للماضي السحيق للفقر في الفضاء العربي.
غلاف الكتاب
- اسم الكتاب: الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي
- المؤلف: عبد الرزاق الفارس
- عدد الصفحات: 151
- الطبعة: الأولى 2001
- الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
ويأتي هذا الكتاب ليؤطر لهذه المعضلة الإنسانية في واقع العرب الحديث, ويرصدها بنظرة تحليلية علمية شاملة ومفيدة. وعلى طول فصول خمسة يناقش الفارس مفاهيم الفقر وقياسه ومؤشراته, ثم يخصص النقاش بالوطن العربي مستعرضاً الفقر في الأقطار النفطية, ثم الأقطار متوسطة الدخل, ثم المنخفضة الدخل. وبعدها يتعمق أكثر في خصائص "الفقر العربي" و"الفقراء العرب" باحثاً في شدة الفقر, وتوزعه على الحضر والريف العربيين, ثم رابطاً ذلك بحجم الأسرة ومعدلات الأمية في العالم العربي. وينتقل إثر ذلك لاستعراض التفاوت المريع في الدخل في الوطن العربي مستخدماً وسائل إحصائية ورياضية وقياسية تشي بعمق المعضلة في الواقع العربي الراهن.
الإشكالية المحيرة في معضلة الفقر في العصر الراهن تكمن في حقيقة أنه رغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهدته البشرية, ورغم ارتفاع وتائر الإنتاج العالمي بشكل غير مسبوق, والتطور الاقتصادي المذهل الذي أصاب حياة ملايين البشر, فإن الفقر مازال يشكل التحدي الأكبر الذي يواجه العالم, وهو تحد مواز لتحد آخر يتمثل في عدم العدالة في التوزيع السمة الأساسية للرأسمالية العالمية المسيطرة على فضاء عالم اليوم.
وإذ يلتفت الفارس بحق إلى هذا التحدي فإنه من المفيد الإشارة هنا إلى أن كبار منظري السوسيولوجيا الدولية من أمثال فرد هاليدي, وأنتوني غيدنز, يعتبرون الفقر وسوء توزيع الدخل العالمي هما التحدي الأكبر الذي يواجه عالم القرن الواحد والعشرين. والأرقام التي يوردها الفارس تتحدث بنفسها عن عمق مشكلة الفقر العالمي, فهي تشير إلى أن ما يقارب 1.2 إلى 1.3 مليار من البشر -أي ما يعادل خمس البشرية- مازالوا يعتبرون فقراء جداً, أي أنهم يعيشون على دولار واحد أو أقل في اليوم. وأنه لو تم رفع خط الفقر قليلاً فقط لوصلت نسبة الفقراء في العالم إلى ما يزيد عن الثلث. أما على المستوى العربي فإن أكثر من ثلثي السكان يقيمون في الأقطار المنخفضة الدخل, وهناك أكثر من 70 مليون عربي يقعون تحت خط الفقر.
والشيء السوداوي حقاً أنه رغم عقود طويلة من التنمية وخطط الاقتصاد والنهوض بالمستوى العام للمجتمعات العربية فإن الدراسات تخلص إلى "أن الفقر في الوطن العربي (الذي) كان في انخفاض مستمر خلال الفترة 1950-1980 (بدأ) بالارتفاع كنسبة من جملة السكان وكعدد مطلق خلال الفترة منذ منتصف الثمانينات وحتى الآن" (ص 37).
وتكاد تنطبق هذه النتيجة على كافة البلدان العربية حتى النفطية منها. فالذي يلاحظه المؤلف من متابعته لمعظم الدراسات الميدانية والبحثية في دول الخليج هو أن ظاهرة الفقر موجودة فيها وإن كانت تتخد مظاهر مختلفة ونسبية، وإن الشيء الآخر المقلق في البلدان النفطية هو التفاوت الكبير في الدخل. أما في البلدان العربية متوسطة الفقر فإن ظاهرة الفقر والفقر المدقع تبدو أكثر بروزاً فعلى سبيل المثال كانت ظاهرة الفقر في مصر أواخر الخمسينات أقل مما هي عليه في منتصف السبعينات (ص 49).
”ينسب المؤلف تدهور مستوى الدخل في الدول العربية إلى الظروف الإقليمية والدولية وكذلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعهتا الحكومات المتعاقبة"وينسب المؤلف هذا التدهور في مستوى الدخل إلى الظروف الإقليمية والدولية وكذلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعهتا الحكومات المتعاقبة. وفي حقبة السبعينات زادت حدة الفقر في مصر بسبب تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وقد فاقم ذلك من الضغوط على الطبقات الفقيرة. غير أن حقبة الثمانينات شهدت تحسناً في مستويات الدخل هناك يعزوه المؤلف إلى استرجاع مصر لحقوقها في إنتاج وتصدير النفط وازدياد فرص العاملين المصريين في الخارج وخاصة في الخليج.
ولا تبتعد الحالة الأردنية عن نظيرتها المصرية, إذ إن التحسن في مستوى الدخل الذي شهده الأردن بين عامي 1980 و1986 الذي كان في صالح الشرائح الفقيرة والعائد للنمو الاقتصادي في تلك الفترة، قد تآكل في النصف الثاني من الثمانينات وحتى سنة 1992. فمؤشر الفقر في المرحلة الثانية ازداد 11.9%, وفجوة الفقر (التي تمثل الفرق بين الدخل الحقيقي وخط الفقر) ارتفعت بمقدار 3.4%, وكل هذا يعود إلى التراجع في النمو الاقتصادي وتقهقر الناتج المحلي بنسبة 8.8% (ص 52).
أما فيما يخص الحالة العراقية فإن الوضع بالغ السوء والأرقام تشير إلى وضع مأساوي ناتج بالأساس عن نتائج حرب الخليج سنة 1991 والحصار الذي لحقه وتعرض له العراق. وتقول الأرقام إن نسبة الفقر هناك ارتفعت حوالي 72.1% في المناطق الحضرية و81.8% في المناطق الريفية عام 1993, بعد أن كانت 24.9 % و33.9% على التوالي عام 1988 (ص 63).
يستعرض الفارس -ولكن بإيجاز مخل- بعض معدلات الفقر ومؤشراته في الدول المنخفضة الدخل. وهنا تزداد الصورة قتامة خاصة في بلدان مثل اليمن والسودان وموريتانيا وفلسطين. ففي موريتانيا على سبيل المثال يتعرض كل طفل من خمسة أطفال إلى الوفاة قبل سن الخامسة. وكما هو معروف فإن معدل وفيات الأطفال تحت الخامسة يعتبر من أهم مؤشرات الفقر. وفي نفس البلد يعاني واحد من كل ثلاثة أشخاص سوء التغذية, ولا يتجاوز متوسط العمر المتوقع للأفراد 47 عاماً, في حين يعد ثلثا السكان من الأميين. لكن لا يتوسع المؤلف في حالات السودان وفلسطين واليمن الأمر الذي يشكل نقصاً واضحاً في الكتاب.
في الجزء الثاني من الكتاب الذي يعالج خصائص الفقر والفقراء في الوطن العربي يحلل المؤلف عمق وشدة الفقر, وفجوة الفقر, وأثر حجم الأسرة والأمية على معدلات الفقر. وإذا كانت العلاقة بين بعض تلك الخصائص وزيادة معدلات الفقر واضحة ومثبتة عبر الإحصاءات والدراسات الميدانية -مثل الأمية- فإن بعض الخصائص الأخرى لاتزال موضع خلاف. ومن الخصائص الخلافية حجم الأسرة، فالبعض يجزم بأن الأسرة الكبيرة تكون أكثر تعرضاً للفقر من الأسرة الصغيرة, لكن البعض الآخر يحاجج أن العلاقة بين حجم الأسرة والفقر ليست محسومة خاصة في الدول النامية والفقيرة. فعدد أفراد الأسرة في المناطق الفقيرة مرتبط بالحاجة إلى أيدٍ عاملة وبتحسين ظروف العائلة بشكل إجمالي في المستقبل, رغم أن هذه ليست قاعدة ثابتة في كل الأماكن. وبعكس هذا فإننا نجد أن عامل الأمية لا يحتاج إلى كبير جدل لإثبات العلاقة بينه وبين الفقر, وتبعاً للأرقام التي يوردها المؤلف -في حالة المغرب على سبيل المثال- فإننا نلحظ علاقة قوية بين الظاهرتين. فمستوى التعليم في أوساط الشريحة الأكثر فقراً في المغرب بالكاد يصل إلى 26.6%, في حين تصل تلك النسبة في أوساط الشريحة الأكثر غنى إلى 65.1% (ص 85).
وتتحدث الأرقام بلغة قاسية أيضاً في الفصل الخاص بالتفاوت في الدخل في الوطن العربي. فهنا نرى الفرق الكبير في الدخول من حيث تقف الكويت على الحد الأقصى من ناحية معدل دخل الفرد السنوي البالغ أكثر من عشرين ألف دولار بحسب تقديرات صندوق النقد العربي لعام 1998, إلى حيث تقف اليمن على الحد الأدنى الذي يشير إلى أن معدل دخل الفرد هناك في ذلك العام لم يتجاوز 350 دولارا. لكن يغيب عن الكتاب إجراء مقارنات إحصائية مع بقية بلدان العالم, سواء الفقير أم متوسط الدخل أم الغني منها, وذلك حتى يستطيع القارئ مَوضعة أوضاع الفقر في العالم العربي في الصورة العالمية المجملة