الاستنجاد بأولمرت يذكّر بتجاهل تحذيرات الحريري
وتجاهل المحكمة يتطابق مع منطق مناصرة دمشق "قاتلة كانت ام مقتولة"
نصرالله يضع العصي في عربة عين التينة ويركض في مكانه
فارس خشّان .....قبل الاطلالة الأخيرة للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، كان المراقبون السياسيون أكثر تفاؤلاً بإمكان وصول النقاشات بين رئيس مجلس النواب نبيه بري، ممثلاً لقوى الثامن من آذار، وبين رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري، ممثلاً لقوى الرابع عشر من آذار، الى مخرج للأزمة التي أوقعتهم بها ارتباطات نصرالله الايرانية والسورية. بعد إطلالته الأخيرة لم يفقد أحد الأمل، لكن الصعوبات فرضت نفسها على رقعة استشراف المستقبل، اعتقاداً منهم انه تعمّد وضع العصي في دواليب عربة عين التينة.
سلوكية التخيير التهديدية
ذلك أن من يتعمق في دراسة مواقف نصرالله يدرك جيداً ان الرجل يركض في مكانه. "المكابرة" هي سلوكيته المستمرة. قال بوضوح لا يحتاج الى تفسير: "إن المعارضة ستستمر في اعتصامها وتحركها السياسي والاعلامي للوصول الى اهدافها الوطنية وستلجأ الى خيارات اخرى اذا اخفقت الفرصة الحالية لأن اهداف المعارضة تستحق المثابرة فهي اهداف وطنية بالكامل".
هذه المعادلة التخييرية بالذات سبق ان اعتمدها، قبل قيادته للحركة الانقلابية في الاول من كانون الاول الماضي، على طاولة التشاور، قال الناطقون باسمه لقوى الرابع عشر من آذار: إما تعطوننا ما نطالب به وإما نترك الحكومة وننزل الى الشارع.
يومها كان المطلوب: تجاهل تشكيل المحكمة الدولية على اعتبارها تتصل بشهداء لا بد من نسيان أمرهم، على اعتبار ان حرب تموز قدمت أولوية ضحايا المواجهات على غيرهم (مدلول كلام النائب محمد رعد في آخر جلسة للتشاور)، وإعطاء المحور الايراني ـ السوري الثلث المعطل بصفته "الثلث الضامن" لمنع تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي كما لمنع نقل لبنان من المرحلة الاولى من القرار 1701 التي تنص على وقف الاعمال الحربية بين لبنان واسرائيل الى المرحلة الثانية التي تنص على وقف نهائي لاطلاق النار وبدء تنفيذ اتفاقية الهدنة بين البلدين العدوين.
نصرالله ومنطق "جماعة سوريا"
ما نطق به نصرالله أخيراً لا يتجاوز الموقف الأساسي. هو تجاوز المحكمة الدولية والشهداء المعنيين بها كلياً. أعطى لهذا التجاوز بعداً صراعياً كبيراً يذكر بما تقوله "جماعة سوريا" لكل من ينتقد وقوفها غير المشروط مع النظام السوري. النائب السابق فتحي يكن قال لمسؤولي "الاخوان المسلمين" الذين التقاهم أخيراً ـ بناء على طلبه ـ بوضوح ما بعده وضوح ان النظام السوري "كافر وقمعي و..." ولكن المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية تفرض الوقوف الى جانبه "ظالماً كان ام مظلوماً". آخرون من معتنقي هذه الفلسفة التي تتجاهل كلياً الزحف الأسدي على أعتاب ايهودا أولمرت، والدفاع المستمر للوبي الصهيوني عن استمرارية النظام السوري، و"الزلغطة" الأسدية لأي لقاء، مهما كان متدني المستوى، بين حكومته وبين مسؤولين أميركيين، سبق ان قالوا بوضوح: "نحن لا نشك في ان النظام السوري أقدم على ارتكاب جملة من عمليات الاغتيال، ولكن لا يمكننا في المواجهة الحالية إلا ان نعبر عن خصومتنا لواشنطن بالوقوف الكامل مع دمشق". نصر الله المتجاهل لمحورية تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي أعاد صوغ هذه الفلسفة التي سبّبت كل مصائب العرب منذ النكبة حتى اليوم وقال بالفم الملآن: "إن في منطقتنا الآن مشروعين الأول أميركي والثاني تحرري هو مشروع سيادة يأخذ أبعاداً قومية وإسلامية.. والصراع الحقيقي في المنطقة الآن هو بين هذين المشروعين".
تجميل مطلب الثلث المعطل
إذا بالنسبة لنصر الله، لا شيء يعلو فوق صوت المعركة. لا محكمة دولية قد تصيب نظام الأسد بوهن سببه قطع يده مستقبلاً عن اعتماد الاغتيال سبيلاً لترسيخ سلطة، ولا شهداء مطلوب رفعهم من مستوى الرقم الى مستوى القضية.
وإذا كانت المحكمة الدولية التي يرفضها نصر الله ليست رهناً بقرار ينبع منه، لأن مسألتها مرتبطة بتفاعل لبناني شامل، يبقى اللجوء الى "تجميل" مطلب "الثلث المعطل" لمجلس الوزراء هو المدخل. بالنسبة إلى الأمين العام لـ"حزب الله"، فإن إعطاء ما يسميه "المعارضة" أحد عشر وزيراً من أصل ثلاثين وزيراً، هو الترجمة الوحيدة لمقولة لا غالب ولا مغلوب، وإمعاناً في تسويق هذ النظرية لا يتردد عن القول: "رئيس الوزراء منكم وأكثرية الحكومة منكم فأين تكونون مغلوبين؟".
ثمة من يصف هذا المنطق بالديماغوجي. في ذهن أصحاب هذا الوصف أن نصر الله يبيع الأكثرية من كيسها، لأن "المعارضة" التي ينطق باسمها لا تستطيع أساساً ان تأتي برئيس من لدنها، حتى لو خربت الأرض، كما أنها لا تستطيع ان تحدد من هي الشخصية الحيادية، حتى لو ملأت الكتب مواصفات، وهي أساساً لا تستطيع ان تطالب بأكثرية المقاعد الوزارية، بعدما ثبت لها ان نيل "الثلث المعطل" هو عملية مستحيلة، في ظل المعادلات السياسية الحالية، فكيف بالذهاب الى أبعد من ذلك؟.
وفي ذهن المتخصصين في الدستور، فإن مطالبة نصر الله بالثلث المعطل توازي مطالبته بصلاحيات رئيس مجلس الوزراء، لأن الثلث المعطل يحقق الآتي:
1ـ الإمساك بسلطة تعطيل انعقاد الحكومة التي تحتاج الى نصاب الثلثين لتكون اجتماعاتها دستورية.
2ـ الإمساك بحق إسقاط الحكومة التي لا تعود دستورية بمجرد ان يستقيل منها أكثر من ثلث وزرائها.
3ـ التحكم بجدول أعمال مجلس الوزراء، بحيث يتم تطيير جلسة الحكومة بمجرد الوصول الى البند الذي يرفض "حزب الله" ان يكون مدرجاً على جدول الأعمال.
وبهذا المعنى، فإن إعطاء "حزب الله" أكثر من ثلث عدد الوزراء، وفق ما يطالب، يكون بمثابة تسليمه صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في لبنان، لأن من يشغل هذا المنصب، المحفوظ للطائفة السنية، هو المخول وضع جدول الاعمال وهو من يقيل الحكومة بتقديم استقالته وهو من يحدد مواعيد انعقاد مجلس الوزراء.
وإذا قيّد لـ"حزب الله" ان يمسك بصلاحيات رئيس مجلس الوزراء، فإنه يتحول عملياً الى حاكم فعلي للبنان، لأن رئاسة مجلس النواب (المحفوظة للطائفة الشيعية) بيده من خلال "التحالف الاندماجي" بين هذا الحزب وبين و"حركة أمل"، ولأن رئاسة الجمهورية (المحفوظة للطائفة المارونية المسيحية) بيده أيضا من خلال الرئيس أميل لحود الذي فرض النظام السوري تمديد ولايته في الثاني من أيلول 2004.
وعلى هذا الأساس، فإن التفسير الذي يعطيه نصر الله لمقولة "اللاغالب واللامغلوب" يستحيل القبول بها في الوضعية الحالية للسلطة، لأنها تعني قبول اللبنانيين بالرضوخ لوصاية "حزب الله" الكاملة مما يفرض عليهم القفز فوق التعاطي السوري الاغتيالي معهم.
نصرالله وأولمرت وتجاهل نصائح الحريري
نصر الله "يركض في مكانه". هذا ينطبق ايضا على محاولة نفض يده من مسؤولية التسبب بحرب تموز ويلقي تبعتها على قوى في الأكثرية، مقدماً تبريراً إضافياً لتجاهل المحكمة ذات الطابع الدولي والمطالبة بالثلث المعطل.
على عادته، يستنجد نصر الله دائماً بالعدو الاسرائيلي ليتجاوز المنطق اللبناني السليم. هذه المرة وجد في اعترافات ايهودا باراك ضالته، ليواصل مهمة التضليل.
في الواقع كانت القيادات اللبنانية تعرف خطة اولمرت التدميرية. لقد تبلغتها من الفرنسيين والاميركيين والامم المتحدة. لم تخفها هذه القيادات بل أبلغتها بوضوح الى نصرالله. قالت له ما سيعانيه لبنان من عمليات تدمير في حال تمّ خرق الخط الأزرق.
في العشرين من كانون الاول 2006 كشف سعد الحريري هذه الحقيقة رسمياً. "حزب الله" لم ينف. الى صحيفة "الوطن" قال الحريري: "لقد بعثت له (نصر الله) برسالتين، الأولى بعد عملية الغجر التي وقع ضحيتها خمسة شهداء من "حزب الله". يومها كانت هناك رسالة واضحة عبر الأميركيين والأوروبيين مفادها أنّ أيّ عملية خطف لأي جندي إسرائيلي ستؤدي إلى حرب شاملة على لبنان. وقبل خمسة أيام من اختطاف الجنود كنا نناقش الوضع الفلسطيني وشرحت له عن جنون أولمرت ومدى تعصّبه وتطرّفه، وقلت له إنه أكثر تطرفاً من شارون وحذرته من هذا الموضوع، وشدّدت أمامه على أنّ عملية الخطف التي حصلت في غزة كانت خطأ، لأنها أوصلت إلى الوضع الذي نحن فيه بحيث ضاعت القضية الفلسطينية وتحوّلت إلى اقتتال فلسطيني داخلي(...)".
ولأن اللبنانيين يعرفون كل هذه الحقائق، فإن نصر الله الذي يهنئ الذين افترشوا وسط بيروت منذ مائة يوم، لن يستطيع ان "يضحك" على الذين دفعوا الثمن غالياً دفاعاً عن لبنان السيد والحر والمستقل، منذ 12 تموز حتى اليوم.